الأربعاء، 12 أكتوبر 2011

الحــــــــــــــــــــــــــــارس

الحــــــارس
محمد البساطي

صدر الحكم أخيراً ويقضي بتحديد إقامتي في البيت مدة ثلاثة شهور. التهمة شغب ومشاركة في إعداد التظاهرات ضد نظام الحكم.

خرجت من الحبس. الشرطي الذي سيرافقني كان في انتظاري، شديد النحول وتجاعيد رفيعة منتشرة على رقبته الطويلة الشبيهة برقبة الأوز.

ركبنا الأوتوبيس واتجهنا الى البيت. مفتاح الشقة معه استلمته من الأمانات حيث احتفظوا بأشيائي لحين خروجي.

فتح الباب وتنحّى جانباً حتى دخلت، تبعني وأغلق الباب بالمفتاح، واحتفظ به في جيبه. تجول في الشقة، فتح أبواب الحجرات الثلاث ودورة المياه ونظر داخلها، حدّق من خلال النوافذ إلى الخارج ثم واربها.

كنت واقفاً في الصالة أتابعه، دخل حجرة الضيوف وعاد حاملاً حصيراً ومخدة ولحافاً وبطانية. أعدّ فرشته خلف باب الخروج. قال: «حانام هنا».

بحثت عن «السبت» وقبل أن أدليه قلت إنني سأطلب سندوتشات فول وطعمية وشاياً وسكراً. وسألته إن كان يريد شيئاً آخر؟

قال: سجاير كليوباترا

ناديت البواب من النافذة، ووضعت نقوداً في «السبت» ودليته.

جلست على مقعد غير بعيد منه. سألته:

والزوار؟

ممنوع.

بعد أن تناولنا عشاءنا، تربع على فرشته يدخن سيجارة. كان يتثاءب ويقاوم النوم. في النهاية سألني:

موش حاتنام؟

آه.

توجهت إلى غرفة النوم. قال:

سيب الباب موارب.

ليه.

عشان أبص عليك. وممنوع الكلام أو الرسائل من الشباك.

في الصباح وجدته يشرب الشاي ويدخن السيجارة متربعاً على الفرشة. قلت:

حادخل الحمام. أسيب الباب موارب؟

رمقني بنظرة متمهلة ولم يرد.

وكنت واقفاً أنظر من الشباك إلى الشارع، والمقهى أمامي. قلت:

آه والله. كنا قعدنا شوية في القهوة. ندخن شيشة. ونفطر سجق من العربة الواقفة جنب الرصيف، قلت إيه؟

نهض. نظر من الشباك إلى الاتجاهين. قال:

ماشي.

غيّرنا ملابسنا وخرجنا.

اختار مكاناً خارج المقهى. بعيداً من الزبائن المنتشرين أمامها، ربما كان الكثيرون منهم وصاحب المقهى على علم بما يجري معي، كنت زبوناً شبه دائم له. يستقبلونني بتحيات مرتفعة الصوت، الآن يتجاهلون دخولي، وصاحب المقهى يدير وجهه إلى الناحية الأخرى. قلت لنفسي:

فيهم الخير.

بعد أن أخذنا جلستنا عدنا إلى الشقة. قال بعد دخولنا:

المكان عايز تنظيف.

ونجيب منين اللي تنظف؟

عندي.

عندك ازاي؟

مراتي.

مراتك؟

آه. تنظف البيوت. عندها كام شقة. وأصحابها مستريحين لها، آهي تساعد. العيشة صعبة.

وأولادك يقعدوا مع مين؟

معنديش.

اللي تشوفه.

أبعت جواب صغير لها مع الواد اللي بيشتغل في القهوة. واديه قرشين أجرة الأوتوبيس وتعبه.

كتب الجواب لامرأته وعنوان شقتي وشقته. وضعته في «السبت» ودليته للبواب.

وقفنا بالنافذة، ورأيناه يعطي الخطاب لصبي المقهى الذي رفع رأسه وأومأ موافقاً.

جاءت في الظهر. امرأة سمينة في منتصف العمر.

قال الحارس:

نقعد في القهوة لغاية ما تخلص.

جلسنا في المكان السابق نفسه. وكنا نتناول سندوتشات السجق حين أشار برأسه إلى الشقة. طلبت بعضاً منها وأرسلتها لامرأته مع البواب.

بعد ساعتين نظرت من الشباك، فصعدنا إلى الشقة.

كل شيء مرتب ونظيف. كانت ترمقني تنتظر ما أقول. قلت:

تسلم ايدك.

في الليل قضيا سهرتهما أمام التلفزيون يشربان الشاي ويتسليان باللب.

كنت أقرأ كتاباً في غرفتي بعد أن استأذنته في إغلاق بابها، أومأ موافقاً.

في الصباح وجدتها صاحية تشرب الشاي وتأكل ما تبقى من طعام العشاء.

أشارت برأسها إلى غرفة الضيوف:

لسه نايم. حايصحى متأخر. أصله سهر مع التلفزيون. باقولك إيه؟

وابتسمت خفيفاً:

أنا ما أقدرش أنزل. تنزل أنت. تشتري شوية حاجات، ولو صحا حاقوله أنني اللي قولت لك تنزل.

أومأت ساكتاً. قالت:

تشتري لي فوطة وشبشب، شوف الشبشب اللي في رجلي شكله ازاي. أنا موش عاجبني الأكل اللي بتاكلوه. هات ورقة وقلم واكتب اللي أقول لك عليه علشان ما تنساش حاجة.

أحضرت ورقة وقلماً. قالت:

عايزة مسحوق غسيل عشان الهدوم. وجوزي بيحب السمك المقلي. وأنا كمان. تشتري لنا سمك. وبالمرة تذوق أكل ايدي. وماتنساش الطرشي. وزيت. ورز. وبصل أخضر. كتبت؟ وصابون بريحة. الصابونة اللي هنا نشفت وريحتها موش حلوة.

سكتت.

استدرت لأخرج. جاءني صوتها:

ولو منديل رأس حلو كده على ذوقك.

خرجت. وسمعت الباب يغلق ورائي.

العلامة تمام حسان في ذمة الله

العلامة تمام حسان في ذمة الله

انتقل إلى رحمة الله عصر اليوم، الثلاثاء 10 من شهر أكتوبر الجاري، العلامة اللغوي تمام حسان عن سن يناهز 93 سنة.

وتمام حسان علم نحوي عربي من مواليد 1918 بقرية الكرنك بمحافظة قنا بصعيد مصر، صاحب كتاب"اللغة العربية معناها ومبناها " الذي وضع فيه نظرية خالفت أفكار النحوي الكبير سيبويه.

ويعد تمام أول من استنبط موازين التنغيم وقواعد النبر في اللغة العربية، وقد أنجز ذلك في أثناء عمله في الماجستير عن لهجة الكرنك، والدكتوراه عن اللهجة العدنية وشرحه في كتابه "مناهج البحث في اللغة".

ويعتبر العلامة تمام حسان من مؤسسي الجمعية اللغوية المصرية عام 1972م، وكان أول رئيس لها وأنشأ أول قسم للدراسات اللغوية بجامعة الخرطوم في السودان، كما أسس بجامعة أم القرى قسم التخصص اللغوي والتربوي وتولى أمانة اللجنة العلمية الدائمة للغة العربية بالمجلس الأعلى للجامعات المصرية وانتخب عضوًا بمجمع اللغة العربية عام 1980م.

أشرف الدكتور تمام على العديد من الرسالات الجامعية في مصر والدول العربية.

الاثنين، 10 أكتوبر 2011

إلى شاعرة «المطبخ»...



إلى شاعرة «المطبخ»...
سلوى ياسين - seloua.yassine@gmail.com

حين قرأت شِعركِ لأول مرة، ومنذ أن وقع لك الشاعر الكبير صك شاعريتك الفذة، وأنا لا أصدق أنك تفضلين أن تبقى قصائدك محمية من النشر والتأويل. ورغم هذا الكم الهائل من الشعر الذي تتعثرين به على الجدران الافتراضية والورقية، مازلت تمانعين في إنشاء بيتك الشعري. هل ستضيع كل تلك الأشعار الرائعة، التي «اقترفتها» لسنوات على إيقاع رائحة القهوة والزعفران، لمجرد أنك تدونين فيض أشعارك على ظهر أوراق الفواتير، وعلى نفس طاولة الرخام الذي قطعت عليه أصابع الجزر واللحم؟ كيف خلصت إلى أنك لست شاعرة.. هل لأنك تنظمين من داخل المطبخ أم لأنك صنعت عزلة الإلهام داخل صالون مغربي وليس داخل حانة أو بهو فندق؟ هل تصدقين شعر النساء المكتوب على طاولة نبيذ أو ذاك الذي يخرج من أمكنة «ميتافيزيقية» تخترعها الشاعرات لإسكان القصيدة؟ فمن الكاتب والشاعر اليوم، هل هو ذاك الذي يصدر رواية أو ديوانا كل عام أم ذاك الذي يتسلى يوميا بملء ما تبقى من ورق افتراضي ويجمع حوله زمرة من المريدين والمريدات؟
أنتِ تصرين على أن تظلي شاعرة مجهولة الهوية، لأنْ لا أحد بعد تذوق طعم قصائدك الطازجة مثل خبز الصباح، وترجئين موعد نشر الديوان الأول إلى زمن يتوقف فيه الناس عن قراءة نصوص النساء وفق تقاليد الحزب والجماعة المقدسة، ويتخلون عن هواية التنقيب في الكلمات عن مواعيد الغرام المسروقة. لا تتوجسي من فضيحة الشعر العلني، فلا أحد اليوم يأخذ ما تكتبه النساء على محمل الشعر، إلا إذا كان مجنونا مثل صيحات الموضة أو إذا لبس ثوبا نسائيا سافرا وجوري اللون.
وتتجنبين إخبار التلفزيون عن صنائعك اللغوية الجميلة، لكي لا يتزامن مع الموسم السنوي للاحتفال بالعنف ضد النساء. فمن سيأتي لاكتشاف شعر تبثه امرأة مباشرة من داخل منزل، على شاكلة برامج اكتشاف نجمة الطهو؟ رغم أنني أظن أن المطبخ أفضل مكان للكتابة بالنسبة إلى امرأة قضت فيه كل هذا العمر، وتحول مع التقادم إلى مكانها التاريخي وخلوتها الملهـِمة. ولا أستغرب قدرتك على الاعتناء بالكناية والتشبيه وتشييد الصور في قصيدة تـُكتب بالقرب من الفرن، وبراعتك في نصب شرائك للمعنى وشبيهه، ومدح الشيء ونقيضه دون أن تتركي دلائل على تلك الجرائم الشعرية، لقد تـَعلمتِ حيل صنع القصيدة من طول تمرسك بالطبخ ومن براعتك في استدراج العسل والملح وفاكهة التين في نفس الأكلة.
ولأنك تؤمنين بأن الجمال هو مسؤوليتك الأكثر شعبية، يحلو لك في الشعر تحويل اللغة إلى حقل للتجريب والتجميل، وتنتقلين بسلاسة من عملية خلط التوابل إلى هواية خلط اللغة، وتؤمنين بقدرتك على تنقيتها من التلوث مثلما تخلصين الأرز من الحصى. تنازلين اللغة العربية وتدللينها بتاءات التأنيث مثل جوارٍ يمتهن الغنج. وبالإكثار من مفردات بالألف الممدودة تصنعين جنودا متأهبة للدفاع عنك، أما حرف «الثاء» فهو بمداد قلمك قادر على إشعال «ثورة».
كم من قصيدة كتبت منذ أن زارتك أحلام المراهقة الأولى؟ حينها بدأت تشككين في شرعية الأنوثة وتراوغينها بالمفردات الخشنة وتنبهت إلى الاستعمالات الأخرى لصمت الليل غير الانتظار. لكنك حين أدركت أن الشعر شخص نزق، مزاجي، ولا يصلح لتكوين أسرة تزوجت بالرجل الآخر. وأرخت بالشعر لتاريخ ولادة الصغار وكتبت مرثية لتأريخ الألم والإجهاض. ومع أن أغلب أشعارك كتبتها على إيقاع صوت أطفالك، وبالرغم من محاولاتك منح القصائد شَعرا طويلا ووشاحا من حرير ونثرت عليها عطرك الخاص، هناك من يضعون قوانين صارمة ضد هجرة الشعر المؤنث صوب الضفة الأخرى من الأحلام. وما زالت بعض المصابات بحمى «المساواة» لا يجدن حرجا في التصريح بأنْ لا فرق بين كتابة الرجال وكتابة النساء.