الجمعة، 27 يناير 2012

لإبداع والقذارة

الإبداع والقذارة


سلوى ياسين - seloua.yassine@gmail.com

لا أحب «الخبز الحافي» لمحمد شكري، لأنني حين أقرؤها تترك بداخلي أثرا سيئا مقيتا، وهناك رائحة تفوح من أغلب كتاباته لا أطيقها، فليس هذا هو الأثر الذي أرجوه من قراءة رواية باعتبارها النوع الأكثر عمقا بين كل الأنواع الأدبية. يقول الأصدقاء: «هذه طريقتك لكي لا تتقبلي الواقع»، وتسقط عليّ كلمة الواقع وكأنها اكتشاف جديد، ما معنى الواقع في الإبداع وما العلاقة التي تربط بين الاثنين؟ أرى أنهما لم يفترقا يوما، لكن هل يعني ذلك أن الرواية أو الفيلم السينمائي، مثلا، يجب أن ينفث في وجهنا كلمات بذيئة ويلعن ويسب ليؤكد لنا العلاقة الحميمية التي تربط الإبداع بالأرض التي نمشي عليها؟ هل هذا الواقع لا يتكون سوى من عاهرات وشواذ ومن زنى المحارم؟ ولماذا لا يرى السينمائي والروائي بين مكونات هذا الواقع الهوية والقيم والثقافة، ألا تكون كلها الجزء الأهم من هذا الواقع؟ ثم إن هناك سؤالا آخر يحيرني: لأي نوع من الجمهور تنتج تلك الأنواع من الأفلام؟ سيقول البعض إننا مصابون، على ما يبدو، بالفصام لأننا نـُقر بوجود هذه القذارة في الواقع وحين نصادفها في رواية أو فيلم نرميها بالأحجار؛ والحال أن أهم ما نتوقعه من هذا النوع من الإبداعات هو مساعدتنا على فهم الواقع لا التفرج عليه وحسب.
يقول الدارسون للأدب المقارن والنقد السينمائي إن هناك روايات في الأدب العالمي أشد «قذارة»، وإنني -بهذا- أتحامل على مبدعي «الهامش» في الأدب، وأقيد من حرية السينمائي. لكن، لماذا لا أشعر بنفس الغضاضة التي أشعر بها إزاء قذارات «شكري» حين أقرأ قصص «إدغار ألان بو» أو حتى أشعار «إزارا باوند» القوية، وأظن أنه ليس للسوداوية والبؤس اللذين ينثرهما «ديكنز» في رواياته نفس الوقع الذي لشبيههما في الرواية المغربية، لأن انتظاراتي كمغربية من الإبداع المغربي ليست هي نفس انتظارات «بول بولز» الأمريكي أو القارئ الإنجليزي من الرواية المغربية، ولأن القذارة والبذاءة في فيلم مغربي تؤذيني أكثر مما يفعله التلوث اللفظي والبصري الموجود بسخاء في الأفلام غير المغربية، لأن كلمة نابية بالدارجة أو باللغة العربية أو باللغة الأمازيغية ليس لها عليّ نفس الوقع الذي يكون لها إذا كانت بلغة أجنبية. هنا، على ما يبدو، يأتي كل الألم في تعامل بعض السينمائيين والأدباء المغاربة مع الواقع، إنهم يرون المغرب وآلامه بعيون غير مغربية وبأدوات فنية ليست دائما «made in» المغرب.
ورغم أن الفن ليس بالضرورة نسخة طبق الأصل عن الواقع، فإن بعض المخرجين اليوم لا يرون في الواقع سوى بركة آسنة يتمرغون في وحلها، خصوصا حين يحلو لهم أن يصوروا معاناة الشواذ عوض معاناة أهاليهم أو تعقب تفاصيل حياة فتاة ليل وما تلقاه من إهانات عوض أن تلتقط الإهانات التي تتعرض لها امرأة أخرى في نفس الليل. هل على الفن أن يكون شاذا عن القاعدة، قذرا، تفوح منه تلك الرائحة لكي يكون واقعيا؟ وما الإضافة التي سيهديها الفن للناس حين سيستمر في لعب نفس الأدوار التي سيقوم بها الفيلم الوثائقي والصورة الفوتوغرافية والأنترنيت التي يمكنها اليوم أن تنسخ هذا الواقع ببذاءته وأدرانه ببراعة وبدقة لا مثيل لها.
أغلب المبدعين يرون أن الحكم الأخلاقي على الفن تخلف، لكن الحكم الثقافي لا مفر منه اليوم؛ فبعدما قضينا عمرا طويلا من حياتنا نفرق بين كل الأنواع والمدارس والرياح والاتجاهات الفنية ونحفظها عن ظهر قلب مثل تلاميذ نجباء، فخورين بأننا نعرف عن الفرنسيين والإنجليز والروس وغيرهم أكثر مما نعرفه عن أنفسنا، حان الوقت لكي نبحث عن طريقتنا الأصيلة الخاصة التي تشبهنا، عن مدرستنا نحن، ورؤيتنا المغربية الخالصة في معالجة الواقع، نترك فيها أثرنا نحن كهوية وكثقافة مختلفة. وليكن الخيال والتفرد والابتكار أدواتنا التي لم تخن يوما الإبداع والمبدعين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق