الأربعاء، 24 غشت 2011

خطوات للوراء...

 
خطوات للوراء...
فارس خضر
        لا اظن ان " ت. س. اليوت" كان يعرف أحدا من الشعراء ذائعي الصيت في هذه الأيام الملتبسة ، ذلك أن كتاباته النقدية النافذة بعد مرور نصف قرن على كتابتها  لا تزال صالحة لتوصيف ونقد الكثير من الظواهر الشعرية الشاذة ، فالشعر الذي يهبط بالبارشوت على كل وسائل الإعلام ، وتخاف ان تفتح صنبور المياه خشية ان يتدلى براسه ليجلدك بما يتصور انه الشعر،هذا الشاعر ليس إفرازا طبيعيا لانحطاط الذوق العام ، ولا نتيجة منطقية لتدني الوعي الفني عند العامة فحسب، لكنه احد الحواة المهرة ، ممن يبيعون لنا الوهم، ويداعبون المشاعر الرائجة ويلعبون بها، مثل هذا الشاعر هو خليط من الممثل والمهرج ولاعب السيرك والتاجر الشاطر.
وقد يتصور البعض أن الحضور الجماهيري ميزة لا تتوافر الا لشعراء قليلين ، وهم بهذا يخلطون بين الجماهيرية والجودة ، والأرجح أنهما متناقضان ، فاليوت يقول: إذا ظفر شاعر بجمهور كبير من المستمعين بسرعة كبيرة فذلك ظرف خليق ان يثير الشبهة ، لأن هذا الشاعر في الواقع لن يقدم شيئا جديدا بقدر ما يعطي للناس ما اعتادوا عليه من قبل ...!
المدهش أن اليوت يرى ان " حصول الشاعر على جمهور مناسب ، قليل ، في عصره أمر مهم . على ان  يكون هناك دائما طليعة من الناس، تقدر الشعر حق قدره وتكون مستقلة ، ومتقدمة على عصرها الى حد ما ."
هذا الفهم النخبوي للعملية الإبداعية لا يسجن الشعر في أبراج عاجية ، ولكن يضعه في منزلة متعالية بعض الشيء، بحيث ان " التطورات الطارئة على الاحساس والتي تظهر أولا في عدد قليل ، تشق طريقها في اللغة بالتدريج  ، بتاثيرها على كتاب شعبيين اكثلا سهولة ، وفي الوقت الذي تكون فيه قد كرست نفسها سوف يقتضي الامر تقدما جديدا."
ان هذه الرؤية تضع مسار العملية الابداعية  في اتجاه واحد ، غير ان قناعتي ان مسار الفنون لا يتخذ دائما هذا المنحى الهابط ـ من أعلى الى أسفل ـ ذلك لان كثيرا من الإبداعات الشعبية المتولدة والمعبرة عن الوجدان الشعبي  الجمعي قد تصعد إلى النخبة المبدعة ممن يسمون بأصحاب الثقافة الرسمية ، فتؤثر في إنتاجهم الإبداعي التأثير نفسه الذي تتركه بقية معارفهم وتجاربهم وخبراتهم ومهاراتهم الابداعية.
كان اليوت شديد الإيمان بالوظيفة الاجتماعي للشعر ، فراه مؤثرا بتفوقه وعنفوانه في كلام واحساس الأمة بأسرها ، وكان يقصد بكلماته النماذج الشعرية العظيمة فحسب، ولم يتطرق من قريب ولا بعيد للحواة الذين يعيدون انتاج الماضي  باكثر الاساليب ابتذلا وتهتكا ، بحيث لا يتورعون عن السرقة العلنية الفاضحة لنماذج شعرية اصيلة وراسخة دون ان  يخجلوا او يستشعروا ادنى احساس بالخزي والعار.

المصدر: مجلة  الشعر :العدد 142 ـ صيف 2011 ـ ص: 160

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق